السومريين أو سومر هل سمعت هذه الأسماء من قبل؟ في ليلة بلا نجوم، وعلى أطراف صحراء العراق التي لا تنام، تسري همسات قديمة بين الريح والتراب. ليست ريحًا عادية، بل أنين حضارة دفنت نفسها تحت الأرض، ورفضت أن تُنسى. هناك، تحت أنقاض المدن الصامتة، في قلب الزقورات المتآكلة، وبين شقوق الطين اليابس شيء ما زال يراقب. شيءٌ لا يموت.
من قال إن التاريخ ميت؟ سومر لم تكن حضارة فقط، بل بوابة فُتحت زمن على عالم غريب. عالمٌ نُقشت فيه الكلمات الأولى، ولكنها لم تكن كلمات علم فقط، بل طلاسم، أدعية، عهود بين البشر وآلهة لا نعرف إن كانت رحيمة أم جائعة. يتحدث كبار السن في الجنوب عن ألواح طينية لُعنت كل يد لامستها. ويحكون عن معابد إذا اقتربت منها، سمعت همسات بلغةٍ لم تُنطق منذ آلاف السنين. يقولون إن الكهنة السومريين لم يموتوا، بل حُبسوا في عالمٍ رمادي، بانتظار من يعيد فتح البوابة.
إن كنت تظن أن ما تقرأه مجرد أسطورة، فدعني أسألك: لماذا طُمست سومر من كتب المدارس؟ ولماذا تم اختصارها إلى مجرد فقرة؟ ربما لأن هناك من أراد أن ينسى أو لأن هناك من خاف أن يتذكّر. في هذا المقال سوف نسافر أنا وأنت إلي رحلة أكتشاف تاريخ حضارة السومريين هل أنت جاهز؟ هل احضر مشروبك المفضل، وأبعد عن المشتتات وهيا بنا نبدأ.
من هم السومريون؟
من البداية هذه الحضارةغامضة جدا وكل المعلومات الموجودة ليست حقيقية 100% وناقصة كتير من المعلومات لا أحد يعلم على وجه الدقة من أين جاؤوا. هل هم بشر؟ أم رسلٌ من عوالم أخرى؟ أم أبناء الآلهة كما زعموا هم أنفسهم؟ ظهروا في الجنوب العراقي، في أرض تُعرف اليوم بـ”بلاد الرافدين”، في زمن سحيق يمتد إلى الألف الخامس قبل الميلاد فبنوا إريدو و أوروك وأور، مدنًا لا تزال آثارها تئن تحت التراب. هم أول من كتب وأول من بنى معابد للآلهة وأول من تحدث عن “الخلق” و”الموت” و”العالم السفلي“. هم من اخترعوا النظام والسلطة والديانة والقوانين، وربما الخوف نفسه.
قيامُ الحضارةِ وسقوطُها المفاجئُ في الظلِّ
في البدء، ازدهرت سومر في عصر يُعرف بعصر “العبيد“. ثم جاء زمن أوروك، فخرجت المدن من الطين، وارتفعت الزقورات كأنها بوابات للسماء. جاءت بعدها عصور الصراع، فكل مدينة تسعى لأن تكون “إلهة الأرض“. أور، لجش، شوروباك كلها قاتلت، كلها صلّت، كلها نزفت. ثم جاء الغريب سرجون الأكدي، فوحّدها جميعًا تحت رايته. لكنها لم تمت. عادت من الرماد، بقيادة أورنامو، وأعادت بناء أمجادها للحظة قبل أن تبتلعها الظلال من جديد. وفي النهاية، اختفت سومر، كما ظهرت دون وداع.
لكنها لم تُغادر تمامًا لغة السومريين لا تزال تهمس في طقوسٍ قديمة آلهتهم، بأسمائهم المرعبة، ما زالت تُذكر في الأساطير وأسئلتهم تلك التي لا إجابة لها، ما زالت تنبض في عقول الباحثين عن الحقيقة. سومر لم تكن مجرد حضارة بل كانت جرحًا في عقل البشرية. إذا كنت تظن أن هذا مجرد تاريخ فأنت لا تزال نائمًا. استيقظ يا صديقي، وابحث لا تصدق كل ما يُقال، ولا ترفض كل ما لا تفهمه. إياك أن تكون قطيعًا آخر في زمنٍ لا يرحم الجاهلين لأن هناك من لا يريدك أن تعرف الحقيقة ولأن بعض الأبواب، حين تُفتح، لا تُغلق أبدًا.
🚨 تنويه عليك قراءة هذه المقالة : الأنوناكي: الحقيقة المرعبة التي لا يريدك أحد أن تعرفها
إنجازات الحضارة السومرية
أخرج السومريون الإنسان من مرحلة الصيد وجعلوه يستخدم الأدوات: فقد طوّروا نظامًا زراعيًا ناجحًا وأدوات فريدة ومدنًا تغص بالتقدم. وقد كان للسومريين إرثٌ حضاريٌّ هائل لا مثيل له آنذاك. وفيما يلي بعض أبرز إنجازاتهم:
- الكتابة المسمارية: اخترع السومريون أقدم نظام كتابة معروف في التاريخ (حوالي 3200 ق.م). نقشوا الحروف المثلثة على ألواح طينية بمشط خشبي فحفظت أرشيفاتهم وأسرارهم. مثّل هذا الاختراع ثورة في توثيق التاريخ والأساطير والاقتصاد: فقد دوّنوا من خلاله ملحمة جلجامش الشهيرة، وقوانينهم الأولى، وشعرهم الديني، وقصص البعث والنشور، ونشاطاتهم التجارية بين المدن.
- القانون والتشريع: سعى السومريون لتنظيم مجتمعاتهم بقوانين مكتوبة. وقد سبقت شرائعهم حكم حمورابي بزمن طويل؛ يُعد قانون «أور نمو» (حوالي 2100 ق.م) أقدم نص تشريعي باقٍ في التاريخ، ينظم العقوبات والتجارة والضرائب بدقة. كان للحكومة المركزية والقضاة في سومر دور بارز في حفظ الحقوق والنظام، فلا تساهل في جرائم القتل أو السرقة، وتوّجت السلطة الملكية بلقب «وليّ آلهة الأرض».
- الزراعة وإدارة المياه: ارتكزت الحضارة السومرية على الريّ والزراعة المحصولية. شقّ السومريون شبكة من القنوات والسدود تمكّنوا بها من نقل مياه دجلة والفرات إلى الحقول. زرعوا الحبوب كالقمح والشعير، ورُويّت بساتين التمر والحدائق. واستُخدمت أدوات مثل المحراث البدائي والعجلات (الحيوانية والأسطول النهري) في خدمة الزراعة. حقّق ذلك وفرة غذائية كبيرة وفرت استقرارًا سكّانيًّا متزايدًا لمختلف المدن.
- الفلك والرياضيات: برع السومريون في رصد السماء وتقسيم الزمان. فلهم التقويم القمري الشهير والحساب الذي يعتمد الأساس 60، ولهذا اخترعوا دقائق الساعة وثواني الدقيقة. سجلوا حركات القمر والشمس والكواكب، فابتكروا طرقًا لحساب الكسوف وتتبع دورات الزهرة والمريخ والمشتري. استنبطوا من ذلك التقاويم والفلك المجرد، ولا تزال تقسيماتهم الزمنيّة تؤثر حتى اليوم في نظام التوقيت العالمي.
- البناء والعمارة: بنى السومريون مدنهم بأيديهم، فجسّدوا العبقرية العمرانية في الزقورات والمعابد والساحات الواسعة. شُيّدت الزقورات المدرّجة (أشبه بالأهرامات خطوةً بخطوة) من طوب مشوي أسمنتته الطين بقوة الشمس، وغطتها طلاءات ملونة ورموز دينية. أشهرها زقورة أور ذات المآذن الدينية المرتفعة، وهي ما تزال رمزًا لعظمة سومر. كما شُيّدت القصور والساحات الملكية والمدارس والمساجد الأولى (إذا صح التعبير)، فتجلّى الفن في نحت الألواح البازلتية ونقشها برسوم حیوان الأوروك المهاجم أو الإله جلجامش.
- التكنولوجيا والاختراعات: شهدت سومر اختراعات مبتكرة. فقد أدخلوا العجلة على العربات التي سهلت النقل والحرب، والعجلة الدوارة للفخار التي سمحت بإنتاج أواني وزخارف بسرعة أكبر. كما برعوا في صناعة البرونز من مزيج النحاس والقصدير، فأنتجوا منه أدوات زراعية وأسلاحًا قوية. ولعلهم صنعوا أيضًا أولى العدسات البسيطة (وثّق بعضها كقرص عيون محورة)، مما يدل على وعيهم بمبادئ الضوء. ولا تزال باقي اختراعاتهم (من ملح الطعام إلى العواصم المحصنة) قصة تُروى بإعجاب.
المعتقدات الدينية والأسطورية للسومريين
كانت ديانة السومريين معقدة ومتعددة الآلهة. آمنوا بأن السماء والأرض تحكمها قوى غيبية تشبه البشر. في طليعة هذه الآلهة كان آن Anu، إله السماء الأعلى، وإنليل Enlil، إله الهواء والرعد، الذي كان له الكلمة العليا في أحداث البشر. وكان إنكي Enki، إله الماء والحكمة، صانع الحياة الناعمة ومستشار الآلهة في أزماتهم. بدت عشتار Inanna كالإلهة المتقلبة، مُجسّدة للحب والحرب، تحمل الجمال والقسوة في آنٍ واحد. أما شمش Utu فأشرق شمسًا عادلة في سماء سومر، ونانا Nanna أضاء ليل السومري بالقمر. وبرزت آلهة أخرى ثانوية تتفرع من هذه الأسرة السمائية الكبرى.
وعبّر السومريون عن مجد آلهتهم بقداسة الملوك الذين كانوا يُعتبرون ممثلين للآلهة وتقدير المعابد والزقورات كبيوت لله. أما حكايات الخلق فقد طوّرتها أساطير سومرية ملهمة. تقول إحدى الأساطير الباكرة إن المياه الأزلية الأبسو أنجبت آن، ثم حملت الأرض والسماء على تفرعاتها. وفي ملحمة سومرية أخرى خلق إنكي البشر من طين ورّق بقطرةٍ من دم إلهي، ليخدموا الآلهة في الأرض. كما تحكي قصص الخلق السومرية عن معارك بين الآلهة الأولى (مثل تيامات العاتية) انتهت بصنع الكون وترتيبه. وحياة ما بعد الموت عندهم كانت حالكة الظلمة.
فعندما يموت الإنسان، يقولون إن روحه تنزل إلى العالم السفلي كور، حيث لا شمس ولا ضوء. هناك تحكم إريشكيجال Ereshkigal ملكة الموت، وتغدو الحياة عبارة عن ظل شاحب للحياة على الأرض. فكان السومريون يضعون مع جثثهم من البضائع الطعام والماء والأدوات، ظنًّا منهم أن الأرواح قد تحتاجها في وحدتها الأبدية. وخلّد الشعر والسجلات أساطيرهم في ملحمة جلجامش الأسطورية، حيث بطلها الملك جلجامش يسعى للخلود. تتضمّن الملحمة طوفانًا قديمًا نجى منه زيوسودرا Ziusudra، بطل سومري، من كارثة غمرية شبيهة بقصة نوح. وتجسّد الأساطير السومرية بمعانيها الأخلاقية والاجتماعية، إذ كانت تبيّن خلق الإنسان ليستمر في العمل ويحمل رسالة مقدّسة. بين آلهتهم وأرضهم، رسم السومريون صورة كونية ملؤها الإعجاب والخوف، ملحمة تنبض بحياة أول إنسان وآخر إله.
ألواح غامضة من حضارة سومر
وسط الألواح الطينية التي خلفها السومريون تبرز نصوص أثارت خيال الأجيال وأدهشت الباحثين:
- لوح الخلق إنوما إليش: هو ملحمة بابلية شهيرة عن خلق الكون بعد معركة بين الآلهة (تيامات ضد مردوخ)، تعتمد في مضمونها على آفاق سومرية قديمة. يروي اللوح كيف خلقت الآلهة البشر من هزيمة العملاق الثلجي تيامات. وقد ربط بعض المهتمين هذا اللوح بكتاب التكوين القريب زمنيًّا، إلا أن العلماء يرونها أمثلة على قصص الخلق العالمية، ولا يُثبت وجود نص سومري صريح وواضح تحمل تفاصيل طوفان نوح.
- أسطورة الأنوناكي: كان الأنوناكي بحسب الأساطير السومرية ثلة آلهة عليا، أبناء آن وإنكي، هبطوا إلى الأرض لحمل مهامٍ كبرى. في النصوص القديمة يظهرون كآلهة حازمة تعطي الإلهام وتفرض النظام. لكن بعض القُرّاء المُعاصرين فسّروهم كـ كائنات فضائية قديمة، يزعمون أن السومريين خلّصوا للأجيال معلومات كونية. وقد لاقى هذا تأويل معارضة من المتخصصين: فهم يرون أن الأنوناكي هم ببساطة أنصاف الآلهة في الثقافة السومرية، لا دليل ماديًّا يؤكد كونهم زائرين من خارج الأرض. سوف نتحدث بشكل مفصل عن هذه الكائنات في مقال منفصل.
- السجلات الفلكية القديمة: رصد السومريون الكواكب والنجوم بطريقة متقدمة نسبياً. فما زالت بعض الألواح تعرض جداول لحركة الزهرة والشمس والأجرام، ويُعتقد أنهم ألّفوا كتباً للتنجيم والطقس. وقد اعتقد بعض المعجبين أن علامات منقوشة على ألواحٍ قد ترمز إلى مخططات كونية أو خرائط شمسية دقيقة، إلا أن رأي العلماء يقول إنها اختصرت الملاحظات التقليدية (كألواح زُهرة التي تسجل أول ظهور للمشتري مثلاً). ومع كل ذلك، تثير هذه السجلات دهشة الباحثين أمام تميّز أدق قياسات السماء لديها، وتُبقى علامات استفهام حول مدى علمية رؤيتهم الفلكية.
النظريات الأكثر إثارة حول سومر
على مر الزمن تراكمت حول حضارة سومر مجموعة من النظريات المثيرة، مشبّعة بروح الأسطورة لكنها تخلو من أدلة قاطعة وهي كتالي:
- الاتصال بكائنات فضائية: تقول نظرية أثارت جدلاً كبيراً (طرحها زيكاريا سيتشن وغيرهم) إن الأنوناكي كانوا في الواقع كائنات من خارج الأرض، أتوا من كوكب خيالي اسمه نيبيرو، وأنهم أعطوا السومريين العلم والتكنولوجيا. تعتمد هذه النظرية على قراءة حرفية لبعض الأساطير ومعادلات فلكية حديثة، وتدعي أن الأساطير السومرية ذكرت رجالًا ذوي أصول فضائية. لكن غالبية العلماء يعتبرون هذه الفكرة شائعة خيالية، لافتين إلى أن النصوص الأصلية تصوّر الآلهة في ثوبٍ إلهي كامل، دون أي إشارة فعلية إلى فضائيين.
- سجلّ الطوفان قبل الأديان الإبراهيمية: لطالما أدهشت قصة نوح في الكتب المقدسة محبّي الغموض. فوجد الباحثون في أساطير سومر القديمة قصصًا عن طوفان مدمّر غمر العالم، نجا منه البطل زيوسودرا (ملك شوروباك) بأمر الآلهة. وردت أصداء هذا الطوفان في ملحمة جلجامش وملاحم أخرى، مما دفع البعض لافتراض أن الطوفان السومري كان قد سجل قبل قصة نوح بألفي عام. ومع ذلك، يراها علماء الأديان تقاطعًا طبيعيًّا للأساطير القديمة؛ فالقصة نفسها قد انتقلت شفهيًّا بين حضارات الشرق القديم. في النهاية، يبدو أن للسومريين نصٌ فلكل حسابه، وللأسطورة القديمة وجهها في أديان لاحقة.
- حضارة متقدمة من عصر مفقود: تكهن بعض الدارسين أن السومريين حملوا معهم علومًا من حضارة غارقة في القدم، وأن ظهور سومر مفاجئة لم يكن مصادفة. يروى في بعض هذه الروايات وجود مدن أسطورية مثل طلسم سومر أو عمران على الماء علمت السومريين أسرارًا قبل التاريخ المكتوب. غير أن التنقيب الأثري يشير إلى تسلسل منطقي: فقد تطوّر السومريون من ثقافة العبيد عبر أورك حتى أور الثالثة، وليس هناك دليل على حضارة غير معروفة استبدلتهم. تظل هذه الأفكار في حقل الخيال العلمي والتأويل الحر، ولكنها تحفز خيالنا لنعيد النظر دومًا بمرونة في أسرار الماضي.
تأثير حضارة سومر على الحضارات اللاحقة
امتد تأثير حضارة سومر إلى ما بعدها من ثقافات، وكانت بصماتها واضحة في ما يأتي:
- الأكديون (السامييون): سرعان ما تبنّى الأكديون المحاصرون للزقورات السومرية لغة السومريين المسمارية لأغراضهم الخاصة. وظلّ السومر يستعمل في المعابد والشؤون الثقافية حتى بعد سيطرة الأكاديين. وترجمت تلك الشعوب الكثير من الأدب السومري إلى الأكادية: فحفظوا ملحمة جلجامش وملاحم أساطير السومريين وأسماك آلهتهم في طقوسهم. بل إن بعض الملوك الأكاديين اعتلى عرشهم بذيول أسماء سومرية، وأعلنوا أنفسهم آلهة كما كان المعتاد لدى السومريين. بعبارة أخرى، حافظ الأكديون على معظم إرث سومر الحضاري، وأضافوا لغتهم وثقافتهم لتشكل سلفًا مُدمجًا للحضارة البابلية المستقبلية.
البابليون والآشوريون: قامت حضارة بابل (البابليّة القديمة بزعامة حمورابي) على قواعد سومرية واضحة. مثلاً، استلهم حمورابي بعض مبادئ تشريعاته من قانون أور نمو السومري، واستخدم بابلوكت رابعة (الرقم 60) في تقسيم الساعات كما السومريون. كما استمرت أساطير الخلق والسماوات لدى البابليين والآشوريين، مع قلب الرواية إلى شعر أو قصائد محروسة (مثل ما فعل البابليون مع قصة خلق الكون إنوما إليش لصالح إلههم مردوخ). وبالنسبة للآشوريين، فقد حملوا معهم إلى الموصل ونينوى رموز الزقورات والسومريين وعاداتهم الدينية مثل وضع تماثيل لأسود كالتي نقشها سومر في بواباتهم. وبشكل عام، يُنظر إلى البابليين والآشوريين كمواصلة لسلالة سومر الثقافية، فلم تكن الحضارة أمرًا منقطعًا بل تطوّرًا مستمرًّا.
المصريون القدماء: لم تنشأ مصر في شرق واحد مع بلاد الرافدين، بل ظهرت مستقلة على ضفاف النيل. ومع ذلك يُلاحظ أن المصريين عبَدوا الشمس رع لدى المصريين، كما فعل السومريون مع شمش، وأن للأبطال الأسطوريين قصصًا معينة تشابه حكاياتهم في طوفان المياه أو الخلق من الطين. قد يفسر البعض هذا بأن أفكارًا كونية كانت مشتركة في عقل القدماء أو انتقلت عبر القوافل التجارية في البحر المتوسط. لكن علماء التاريخ يرون مصر كحضارة نشأت بمعزل كبير، وأن أي تشابه (كالأهرامات المماثلة للزقورات) يعود على الأغلب إلى احتياجات إنسانية متشابهة أكثر منه إلى اتصال مباشر.
إذاً كان لإرث سومر أيدٍ باقية في كل حضارة لاحقة على أرض الرافدين. قوانينهم وبديهياتهم الفلكية وحتى عناصر من لغتهم استمرّت عند من احتلّوا أرضهم بعدهم، ليثبت سومر بذلك أنه معدن حضاري لا يذوب في صهر التاريخ.
آثار حضارة سومر المكتشفة والألغاز المستمرة
اليوم، تفيض كنوز سومر في المتاحف والمواقع الأثرية في العراق وعلى صعيد العالم. ففي أور القديمة تكشف الزقورات الطينية عن أعظم عمران همد لشجرة طين أور، وتحاول النقوش المرمية فيها أن ترفع لنا ستائر الماضي. وعند أوروك الأثرية لا تزال أطلال المعبد الأبيض وسور المدينة تهب زوارها طابعها العظيم. واكتُشفت آلاف الألواح الطينية المسمارية في حفريات أور وأوروك ونينوى وشيشو، بعضها محفوظ في المتاحف العراقية والبريطانية والعالمية. تحمل هذه الألواح سجلات دقيقة مثل معاملات تجارية، محاسبة مواشي وزراعة، رسوم حكومية
وأعمالًا أدبية ودينية، فلا تزال تروي لنا عن حربٍ كان فيها السومريون وأعداؤهم، وعن أعيادهم وزرائبهم ومحاصيلهم وكل تفاصيل حياتهم. ومع ذلك، ما يزال كثيرٌ من الأسرار مخفيًّا في طين سومر. فالحياة اليومية البسيطة وغير المهيبة لم توثّقها الحفائر كاملاً: فلم تُفكّك بعد بعض المصطلحات والرموز في الألواح. وبعضا من تلك الألواح مفقود أو مشوّه بفعل حروب ومضايقات الزمان، مما يجعل ثمة فجوات في معرفتنا. وحتى فيما يتعلق بهويتهم وأصلهم، يبقى النقاش قائمًا: فقد اختلف المؤرخون في تحديد أصول السومريين، فبعضهم رأى أنهم قدموا من الأناضول أو القوقاز،
وآخرون يرى أنهم سلالات محلية تطورت في الموقع. وأكثرُ الألغاز بقاءً في الأوساط العلمية هو كيف اختفى اسم سومر من الآثار الرسمية، فلم يُعرف سقوطهم بحدثٍ واحدٍ واضح، بل تلاشت سلطتهم تدريجيًا وانتقلت المراكز السياسية إلى شعوب أخرى. ومع كل ذلك استمر لغز سومر في إثارة الدهشة. فحتى عصر النهضة، بقيت الكتابة المسمارية ألغازًا في متاحف العالم بلا مفتاح، قبل أن يأتي علماء القرن التاسع عشر ويفتحوا قفلها. وإن كُشِفَ الكثير، يظل مذاق عدم اليقين يحوم: فقد نكاد نستمع في صمت الليل إلى رسائلهم الطينية وهمساتهم المدفونة. وبين سطور تلك الألواح المنقوشة، درس جديد يهمس: رغم افتراقنا قرونًا، هم ما زالوا يحدّثوننا بصمت، ويتركوا أبواب التاريخ مشرعة لخيالنا.
الخاتمة
في رحلتنا عبر فضاء سومر الأسطوري ندرك أنها ليست صفحة عابرة في كتب التاريخ، بل سر مدفون في رمال العراق يأبى أن يُنسى. وبينما بدأ العلم يُضيء بعض أنواره على إنجازات السومريين (كالكتابة والتقانة والزراعة)، يظل نصف الحقيقة ما زال مبهومًا كسحب تمرّد الشمس. هل كانوا بحق ملوكًا أو قساوسة حضاريين ملكم العالم؟ أم أن نصف قصتهم سيظل تأملًا وهوانًا للإنسان على الأرض؟ تبقى الأكيد أن الطين المنقوش بألواحهم لم يُفصح عن كل أسراره بعد. وعندما يظل السومريون في أعماق ذاكرة البشر، نعرف أنهم تركوا لنا رسالة: حضارة الإنسان الأولى حديثةٍ بمجده الماضي وأحجياته التي نسعى لكشفها، فندرك أن الخيال والتاريخ يكوّنان معًا سردًا بلا نهاية.
المصادر :
- https://ultrairaq.ultrasawt.com/
- https://arabicpost.net/
- https://www.smithsonianmag.com/
- https://findingaids.smith.edu/
- https://scarc.library.oregonstate.edu/
- https://smarthistory.org/
- wiki
- https://www.ducksters.com/