العلاج النفسي هل شعرت يومًا أن في شيء داخلك مش مفهوم؟ مش مرض ولا حالة ولا حتى تشخيص بس في وجع صامت وضيق بيصحى معاك الصبح، وبيمشي جنبك طول اليوم، وبيتمدد في صدرك وأنت ساكت ومحدش واخد باله وفي زمن بقى فيه كل شعور ليه اسم وكل ألم له حبوب وكل لحظة ضعف بتتسجل كاضطراب نفسي تبدأ تسأل نفسك: هل أنا فعلاً مريض؟ ولا الدنيا دي كلها هي اللي تعبتني؟ في المقال ده، مش هتلاقي إجابات جاهزة لكنك ممكن تلاقي نفسك.
في كواليس العلاج النفسي: من يكتب التعاريف ومن يبيع الدواء؟
في أعماق كل مشاعرنا، هناك من يجلس على طاولة التحكم ليس طبيبًا ولا معالجًا بل مستثمر، ممول، مدير تسويق، الطب النفسي لم يعد فقط علماً بل أصبح صناعة، مربحة جدًا ومثل أي صناعة، تحتاج إلى منتج وسوق ومستهلك وهنا ناتي إلي السؤال الثاني ما هو المنتج؟ الاضطراب النفسي ومن هو السوق؟ كل إنسان يعاني من مشاعر طبيعية في عالم مضغوط ومن هو المستهلك؟ أنا وأنت وكل من يقرأ هذه الكلمات الآن.
الأمر ليس افتراضًا لا بل أكثر من 60% من الدراسات النفسية الحديثة ممولة من شركات أدوية هل تفهم ما يعنيه هذا الرقم؟ يعني أن من يكتب تعريف المرض هو نفسه من يبيعك العلاج! فلنفترض أن دراسة خرجت اليوم تقول إن الشعور بالملل أكثر من ثلاث مرات أسبوعيًا هو مؤشر خطر على اضطراب نفسي جديد في اليوم التالي، يظهر إعلان جديد: دواء XXX – يعيد إليك حماسك! ثم يبدأ السوشيال ميديا بنشر الأعراض:
- فقدان الشغف
- النوم المفرط
- التشتت
- تقلبات المزاج
وكل من يقرأ هذه القائمة سيقول: أنا مصاب هذا أنا بالضبط! هكذا تتحول الحياة إلى مرض وهكذا تتحول المشاعر إلى صفقات لكن هل فكرت يومًا: لماذا نصدق كل هذا بسهولة؟ لماذا لا نسأل أنفسنا إن كان هذا الحزن نتيجة فقد أو هذا القلق انعكاس لضغط الحياة أم أن ما نشعر به مجرد جزء من كوننا بشرًا؟
السوشيال ميديا العيادة المفتوحة التي لا تغلق أبدًا

في السابق، كنا نحتاج إلى موعد مع طبيب نفسي جلسة مغلقة، تشخيص دقيق، توازن بين العلم والمشاعر ولكن الآن؟ يكفي أن تفتح إنستجرام أو تيك توك فتجد نفسك في عيادة مفتوحة، مليئة بـ الخبراء، وضحايا الاضطرابات، والمحتوى العلاجي و بوستات ملونة تقول: “لو بتحس بكذا، فإنت غالبًا borderline.” أو “لو بتفكر كتير، غالبًا عندك OCD.” أو “لو بتتعلق بالناس بسرعة، إنت أكيد عندك anxious attachment” ثلاث جمل، وربما صورة حزينة فتنظر إلى نفسك، وتهمس: أنا ده أكيد ده أنا أنا مريض.
هكذا بدأت العدوى وعدوى نفسية، لكنها لا تنتقل بالهواء بل بالـ scroll تشاهد قصة شخص مصاب بالاكتئاب تشعر أنك تشبهه تقرأ عن أعراض اضطراب الشخصية الحدية تربطها بتجربة حب فاشلة ومع الوقت تتقمص دور المريض وتبدأ ترى نفسك كـ شخص معطوب ، تحتاج إلى من يُفهمك، يُعالجك، يحتضنك، ويروي لك أن ما تشعر به ليس طبيعيًا.
هذا ليس مجازًا، بل واقع بدأ يتضح للباحثين النفسيين وهناك مصطلح يُستخدم الآن في الأوساط العلمية: Psychological Contagion – العدوى النفسية ماذا تعني؟ تعني أن الأعراض النفسية يمكن أن تنتشر كما ينتشر الفيروس، لكن ليس من خلال الجراثيم بل من خلال السرد والنتيجة؟ حالة من الاندماج في التشخيص، حتى لو لم يكن دقيقًا وشعور بالانتماء، كأن المرض يمنحه تعريفًا وبحث عن التعاطف، حيث يصبح المرض
طريقًا للاهتمام وهنا تكمن الخطورة لأن الألم النفسي حقيقي، لكنه ليس دائمًا مرضًا وما بين الضغط النفسي والاضطراب خيط رفيع ولكن المؤثرون على السوشيال ميديا لا يُفرقون والمتابعون بدافع الصدق أو الهروب لا يتساءلون وهكذا تنتشر العدوى ونشخص أنفسنا بأنفسنا، نعيش داخل دور الضحية، ونتغذى على التعاطف الرقمي.
لكن مهلاً هل نحن نشعر فعلاً بكل هذا؟ أم أن المحتوى هو من يُقنعنا أننا نشعر؟ هل هذه الأعراض فينا أم أننا ببساطة نُعيد صياغة مشاعرنا بلغة الإنترنت؟ في هذا المشهد، لم نعد نعيش الحياة بل نعيش ما يُقال عنها ونشارك بوستات تعبر عن الألم، نتبادل الهوية النفسية كما نتبادل الفلاتر، ونتشبث بمسميات تجعلنا نبدو أكثر عمقًا وندرة ولكننا نسينا شيئًا الإنسان الطبيعي يُحبط، ويغضب، ويقلق، ويكتئب أحيانًا دون أن يكون مريضًا فمتى تحول الزعل إلى مرض؟ ومتى أصبحت المشاعر تحتاج إلى تشخيص؟ ومن المستفيد من كل هذا؟
🚨 تنويه هام : من أنا ؟ سؤال يوقظ شياطيني في كل ليلة
من يربح عندما نُصدق أننا مرضى؟
في كل نظام، دائمًا هناك مستفيد وفي قصة التشخيص الزائد و الاضطرابات النفسية المُنتشرة كالنار، المستفيد واضح ولكن لا أحد يريد النظر إليه مباشرة ودعنا نسأل سؤالًا بسيطًا: من الذي يُموّل معظم الأبحاث النفسية الحديثة؟ الجواب الرسمي قد يُفاجئك إنها شركات الأدوية العالمية ونعم، تلك الشركات التي تصنع مضادات الاكتئاب، وأدوية القلق، ومثبتات المزاج، والحبوب التي تُعيد الاتزان لعقلك هي نفسها التي تمول الدراسات التي تقول إن: الشعور بالوحدة مرض، و التفكير المفرط اضطراب و فقدان الشغف عرض نفسي خطير والسؤال الحقيقي
هنا ليس عن العلاج، بل عن تحويل كل إحساس بشري إلى حالة قابلة للبيع وفكر فيها كلما اتسعت قائمة الاضطرابات، كلما زادت الوصفات الطبية، وكلما زاد عدد العملاء الدائمين أقصد المرضى وصديقك الذي يشعر بالضياع لم يعد محتاجًا لمن يستمع له، بل لمهدئ خفيف بجرعة منتظمة والفتاة التي انفصلت عن شريكها وتشعر بالفراغ لم تعد بحاجة إلى احتواء، بل إلى علاج للـخلل العاطفي ونحول الحياة إلى معادلات كيميائية و تفرغ التجارب من معناها وتحقن بالمهدئات.
وبينما نمضي جميعًا بحثًا عن تعريف لم نشعر به، هناك من يجلس في أعلى السلم ويحسب الأرباح وشركات كاملة تبنت فكرة أن الإنسان الطبيعي لم يعد كافيًا بل لا بد أن يكون مريضًا جزئيًا على الأقل، ليكون زبونًا دائمًا في هذه السوق النفسية الجديدة وإنها صناعة كاملة صناعة الحزن المعلب، والقلق المغلف، والعلاج القابل للتكرار ولكن هل هذا يعني أن كل ما في الطب النفسي كذب؟ قطعًا لا هناك من يحتاج الدواء، والعلاج، والمساعدة الحقيقية ولكن أن يصبح التشخيص موضة والأدوية رفاهية فذلك، يا صديقي، هو بداية المتاهة الحقيقية.
تحول كل اضطراب نفسي إلى وسم وكل عقدة إلى عنوان بايو وكل وجع إلى علامة على العمق تجد من يكتب بفخر: “Anxious soul 🌙 | ADHD survivor | Emotionally unavailable” كأنها شارات تمنح في معسكر الصدمات هل يعاني فعلًا؟ ربما ولكن الأهم أنه بدأ يُعرف نفسه من خلال مرضه وهنا مكمن الخطر أن يتحوّل التشخيص من أداة للفهم إلى هوية ثابتة و أن يصبح الشخص غير قادر على تخيل ذاته بدون هذا اللقب وكأن أنا مريض باتت أكثر وضوحًا من أنا إنسان.
والأدهى؟ أن هذا يكافأ نعم، العالم الرقمي يكافئ من يُعلن ألمه وكلما زادت جرعة البوح زادت جرعة التفاعل وكلما تضخم الدور الدرامي تضاعفت المشاهدات في النهاية، يُصبح الاضطراب لا مجرد تجربة بل علامة تجارية والغريب؟ أن هذه الهوية تشعرك بالخصوصية بينما تشبه آلاف غيرك و تقرأ فتاة منشورًا عن اضطراب التعلق، فتعلّق: ده أنا بالظبط! ثم تقرأ التعليقات لتجد عشرات يقولون نفس العبارة و الكل يشعر أنه “فريد” في مرضه بينما الجميع يردد نفس القصة.
وهكذا تُفقد التجربة معناها، ويُصبح المرض صيحة موضة نفسية، لكن، ما الثمن؟ التعلق بالمرض كأنه أمان وإهمال العلاج الحقيقي لأن الهوية لا تشفى و تحول الألم إلى وسيلة بقاء رقمي
🚨 تنويه هام : الادمان من قلب مدمن سابق إليك الحقيقة التي لا يخبرك بها أحد
العودة إلى الذات كيف نُميز بين المرض والإنسانية؟
في وسط هذا الضجيج، هذا الزخم من التعريفات، والمصطلحات، والتشخيصات المتداولة كأنها بطاقات هوية جديدة تنهض داخلك نفس واحدة فقط، تهمس:
هل أنا حقًا مريض أم أني فقط إنسان؟ لا أحد ينكر أن النفس تتعب وأن هناك أشخاصًا يعيشون في جحيم داخلي لا يُرى وأن الاكتئاب ليس مزحة و أن بعض القلق قد يتحول إلى سلاسل حديدية تخنق الحياة.
لكن الحقيقة العارية هي:
- ليس كل حزن اكتئاب.
- ليس كل وحدة مرض.
- ليس كل إرهاق احتراق نفسي.
الإنسان الطبيعي يحزن، يُرهق، يملّ، يقلق، ينعزل أحيانًا، يثور فجأة، ثم يعود ويتصالح مع ذاته و هذه ليست أعراض مرضية هذه أعراض الحياة فكيف نفرق؟ المشاعر العابرة مقابل الحالة المستمرة وإذا كنت تشعر بالإحباط ليوم أو يومين، هذا طبيعي وأما إن كان الإحباط مستمرًا، يمنعك من أداء حياتك اليومية لأسبوعين أو أكثر، هنا يجب الانتباه.
هل تبحث عن “هوية” أم عن “نجدة”؟ الكثيرون يتشبثون بالتشخيص لأنه يمنحهم تعريفًا: أنا لست فاشل أنا فقط مريض! هذا خطير لأنك تُعيد تشكيل صورتك الذاتية حول ألم مؤقت و هل هذا رأي مختص؟ لا تعتمد أبدًا على فيديو، أو بوست، أو حتى تجربة صديق والطب النفسي الحقيقي يبدأ بالتقييم و بالتحليل و بالحوار.
كلنا موجوعين والمشكلة مش دايمًا محتاجة دوا
خليني أقولك الحقيقة اللي محدش بيحب يسمعها: كلنا عندنا مشاكل نفسيةو مفيش حد سليم 100% مفيش إنسان بيمشي في الدنيا دي من غير ما يحس بالحزن، الفراغ، الخوف، القلق، التعلّق، أو حتى شعور بعدم المعنى حتي الطبيب النفسي لان كلنا بشر والبشر ايه غير مشاعر واحساسيس ولكن الفرق الحقيقي بيننا،مش في مين مريض ومين سليم، بل في مين بيواجه ومين بيه يهرب.
ناس كتير لما بتحس بوجع نفسي، بتدور على حل سريع: قرص، وصفة، تشخيص أي حاجة تخفف الألم النفسي حتي ان كانت مخدرات او عادات مدمرا لان اغلب المدمنين يهربون من الم ما بس تعالى نسأل نفسنا بصراحة: هل الاكتئاب العادي فعلًا مرض كيميائي؟ هل فقدان الشغف يستاهل دواء؟ هل التعلّق العاطفي الشديد مرض؟ ولا دي كلها أشكال من الألم الإنساني اللي محتاج يُفهم مش يتخدّر؟ الأدوية أحيانًا بتكون زي المخدرات، مش لأنك مدمن،
لكن لأنها بتخدّر الألم بدل ما تواجهه.
زي العادة السرية لحظة تفريغ وراحة مؤقتة، لكن بعدها؟ نفس الفراغ و نفس السؤال ونفس الوجع ولازم تعرف أن الطبيب مش منقذ الطبيب مرافق الطبيب النفسي مش ساحر، ومش معاه عصاية سحرية لا هو مجرد إنسان قاعد قدامك، بيحاول يسمعك، يحاول يفهمك، يساعدك تحفر جوّا نفسك وتوصل لنقطة البداية لنقطة الألم الحقيقي ولكن لو أنت مش عايز تتغير، لو مش مستعد تواجه، لو لسه بتدور على حل سريع، فحتى الطبيب هيفشل معاك.
العلاج النفسي الحقيقي مش دوا، العلاج النفسي الحقيقي هو إنك تعترف إنك موجوع، وإنك مستعد تمشي السكة الصعبة سكة المواجهة وجعك مش مرض أحيانًا وجعك هو نداء داخلي بيقولك إن في حاجة ناقصة، إن في شيء لازم يتغيّر، إن في خوف محتاج يتفك، أو علاقة محتاجة تتقطع، أو ماضي محتاج يتواجه ويتسامح صديقي الأدوية مش دايمًا الحل المواجهة هي الحل.
الخاتمة
بعد كل هذا بعد كل المصطلحات، والتشخيصات، والعناوين الكبيرة وبعد كل محاولة لفهم ما تشعر به من خلال كلمات الآخرين تبقى الحقيقة عارية أمامك: أنت لست كومة من الأعراض، ولست تقريرًا من أربعة أسطر، ولست اسمًا في كتاب الطب النفسي لا يا صديقي أنت إنسان تتألم، وتنهار، وتفقد الشغف، وتشتاق، وتُرهق، وتضيع أحيانًا ولكن هذا لا يعني أنك مريض ربما كل ما تحتاجه ليس دواءً بل حضنًا وربما لا تحتاج جلسة علاج بل من يسمعك دون أن يضعك تحت المجهر عليك أن تسال نفسك بصدق: هل تريد أن تُشفى أم فقط أن تُفهَم؟ في النهاية، لن ينقذك أحد إن لم تقرر أنت أن تُنقذ نفسك ولن يطفئ نارك أحد إن لم تمد يدك من الداخل فكن أنت مرشدك وكن أنت العلاج.